عقوبة ترك الدين

عادةً بعد بیان وشرح مخالفة القرآن وأهل البيت (علیهم‌السلام) للاکراه الديني، فإن أول سؤال يُطرح هو: إذا لم يكن هناك إكراه أو فرض في الدين، فلماذا لا يُسمح للناس بتغيير دينهم؟ ولماذا يُغلق طريق حرية الاختيار بهذه العقوبات الثقيلة، مثل عقوبة الإعدام للمرتد؟ للإجابة على هذا السؤال المهم والضروري نحتاج إلى دراسة رأي القرآن فيما يتعلق بالردة ونحصل علیه دون الاعتماد على ما هو المشهور.

ولكي نفهم موقف القرآن في التعامل مع الردة، بالإضافة إلى الانتباه إلى الآيات التي تعتبر الدين الاجباري باطلاً وغير مرغوب فيه، من الضروري أيضًا دراسة أكثر من 15 آية تدين صراحةً الارتداد عن الدين وتحدد عقوبات شديدة عليه.

تجدر الاشارة الی أن القرآن أينما تحدث عن الكفر بعد الإيمان و ألقی اللوم علی المرتدين، فإنه يشير إلى أولئك الذين کانوا یعرفون الأدلة الواضحة التي تبين أن الدين هو الحق، ولكنهم أعرضوا عنه عن عمد ووعي؛ أولئك الذين تم وصفهم في الآية 86 من سورة آل عمران على النحو التالي:

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.

ولهذا السبب وصف هؤلاء الأشخاص بأنهم من الضالين في الآية 108 من سورة البقرة[1] و أنهم هم الفاسقون في الآية 82 من سورة آل عمران[2] و في الآية 149 من سورة آل عمران اعتبرهم من الخاسرين[3] و في الآيات 86 إلى 91 من نفس هذه السورة وعدهم بعقوبات شديدة وأبدية وكذلك عدم قبول توبتهم وفدیتهم[4]. وکذلک هناک آيات كثيرة أخرى في القرآن الكريم تصف عقوبات الردة مثل حبط الأعمال الصالحة[5]، والحرمان من مغفرة الله وهدایته[6]، والعذاب الألیم في الدنيا والآخرة[7]، والوقوع في غضب الله وعقابه العظيم[8]، ومع ذلك لم يتم الإشارة ولو مرة واحدة إلى تطبيق الحدود الشرعية على المرتدين.

نری أن القرآن الكريم قد تناول موضوع الارتداد عدة مرات وحاول منع هذه المعصية والانحراف بكل حزم وجدية من خلال تحذير مرتكبيها من تلقي أشد العقوبات وأعظمها في الآخرة، لكنه لم يذكر أي عقوبة  دنيوية في هذا السياق؛ وهذا له معنى كبير ويظهر بوضوح أن المدرسة التي تحمل لواء حرية الفكر والعقيدة وتصر مرارًا وتكرارًا على الطبيعة غير الإلزامية للشؤون الدينية، لن ترضى أبدًا بأحكام ومعالجات تتعارض مع تلك الادعاءات وتدمر أي فرصة لحرية الاختيار.

نعم، لقد أراد البعض أن يجعلوا أمر الله بانتحار بني إسرائيل الجماعي بعد عبادة العجل المذكور في الآية 54 من سورة البقرة، أو وعدهم بالعقوبات الدنيوية في الآية 74 من سورة التوبة، دلیلاً علی ضرورة تحدید عقوبات للمرتدین، ولكن هذا الحكم لا يستمد من هاتين الآيتين ولا یمکن نقض الدلائل المتعددة الواضحة التي تقول أن عقوبة المرتدین في الدنیا تخالف القرآن بهذه الحجة الضعیفة.

إن الآية في سورة البقرة تصف عقوبة عبادة العجل على هذا النحو:

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.

وإن كان رأي كثير من المفسرين أنه يفهم من هذه الآية أن عقوبة بني إسرائيل بعد ارتدادهم وعبادتهم للعجل هي أن يقتل بعضهم بعضاً، ولكن بعد وجود احتمالات متعددة في معنی الآیة کنزول الحکم لاختبارهم وعدم تنفیذه علیهم، أو عفوهم وغفران الله لهم لتوبتهم، لا یمکن لنا أن نصل إلى نتيجة واضحة حول يقينية وديمومة مثل هذا الحكم حتى بالنسبة الی شريعة النبي موسى (علیه‌السلام)، ناهيك عن تطبيق أحداث حادثة معينة في شريعة أخرى على آيات القرآن وإصدار مثل هذا الحكم الثقيل.

ولكن العقوبة الدنيویة المعلنة في الآية 74 من سورة التوبة فهي تتعلق بالكفار والمنافقين الذين تكلموا بألفاظ كفرية ونقضوا العهود وبدؤوا الحروب بعد إسلامهم، ولذلک هذه الآية تطلب منهم أولاً التوبة ثم تقول:

وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ.

وهنا إذا انتبهنا إلى سياق العبارة، فسوف نفهم أن معنى العقوبة الدنيوية هو الهزيمة والدمار في الجهاد الذي أمر الله تعالی رسوله بالقيام به بشدة في الآية السابقة؛ فهذه المسألة لا علاقة لها بالظروف غير القتالية ولا بالأحكام العامة التي تصدر في حالة الردة.

وهناك فريق آخر من الفقهاء، لتبرير الفتوى الشهيرة وحل مشكلة تناقضها مع آيات القرآن، يربطون هذه العقوبة بأفعال مثل إشاعة الردة والشك بين المسلمين، ويقولون: “إن تغيير الرأي وترك الإسلام في حد ذاته ليس له عقوبة دنيوية، ولكن لا يجوز لمثل هذا الشخص التعبير عن اعتقاده الجديد ونشره، وإذا فعل ذلك فإنه يعاقب بجريمة الفتنة”. ولكن هذا التبرير لا يبدو متوافقاً مع وجهة نظر القرآن، وبالفحص الدقيق يظهر أن هذا الكتاب يكتفي بالتحذير من عذاب الآخرة عند التعامل مع المرتدين الذين ينوون من ارتدادهم الاستهزاء بالدين وإضعافه؛ کما نقرأ في الآيتين 65 و 66 من سورة التوبة:

وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ.‏ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ.

فإننا نرى أن هاتين الآيتين اللتين أراد البعض الاستناد بهما لتأييد قتل المرتدين، مثل كثير من الآيات المشابهة التي فیها ردّ لهذه الأعمال القبیحة، لا يوجد فيهما ذكر للمعاملة العنيفة أو العقوبة الدنيوية رداً على هذه الممارسات الساخرة والمهینة؛ وذلك لأن الخالق الحكيم يعلم أن القسوة على الإهانات ومعاقبة الناس على معتقداتهم الباطلة سوف يجعل الدين والمتدينين بمظهر یبدو أنهم غير العقلانيين الذين لیس لهم الثقة بالنفس، مع أن هذه العقوبات غالباً لا يؤدي إلى إصلاح أحد، ولکن ممارسة العفو والتسامح في الحياة الاجتماعية وتأجيل عقوبة هؤلاء إلى الدار الآخرة یمکن أن يكون أساساً لإصلاح بعضهم وسوف يقدم وجهاً جميلاً للدين يجذب القلوب الطاهرة. ولذلك فإن القرآن في الآية 54 من سورة المائدة، وبعد الإشارة إلى إمكانية ارتداد بعض المسلمين، بدلاً من بیان أي معاقبة للمرتدين، يعتبر ما یکتسب من هذه الطریقة الجميلة تعويضاً لهذه الخسائر بقوله:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ …

إن تناغم هذه الآيات مع آيات أخرى تعبر عن عدم الاکراه في الدين لا يترك مجالاً للشك في أن القرآن لا يوافق على معاقبة من يترك الإسلام، بل يعتقد أن إجبار الناس على البقاء في الدين طريقة المستكبرين. ولهذا في الآية 88 من سورة الأعراف، یحکي القرآن هذا الأسلوب من رؤساء معارضي النبي شعيب (علیه‌السلام) والجواب الذي ینقل عنه (علیه‌السلام) هو البرائة عن الدين الإجباري:

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ.

نفس هذا المنطق القسري في إجبار الناس على قبول الدين، يُنسب إلى أعداء جميع الأنبياء في الآية 13 من سورة إبراهيم:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ.

ومن الأمثلة الواضحة للعداوة مع أسلوب الأنبياء المحبین للحرية فرعون، الذي استخدم نفس هذا الموضوع أي تبدیل الدین والقلق من تضییع معتقدات الناس کذریعة لعنفه وإجبار الناس وفقًا لما تروي الآية 26 من سورة غافر:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ.

فعلی ما بینّا لا یبقی شك في أن القرآن لا يؤيد العقوبات في الحیاة الدنیا لمن يترك الدين، ولكن لماذا أصدر معظم الفقهاء، استنادًا إلى عدد من الأحاديث والسیرة الجاریة بين المسلمين، فتاوى للعقوبات الشديدة مثل الإعدام والمعاملة القاسية ضد من بدّل دینه، هذا يتطلب دراسة منفصلة ومفصلة حتى يتم التحقق من صحة التقارير التاريخية والحصول علی السياقات السياسية لمثل هذه السلوكيات حتی نتمكن من فهم دور الحكومات الاستبدادية في استغلال هذا الحكم وبعد معرفة الفرق بين منطق القرآن وعمل المسلمين، نفهم بشكل أفضل أبعاد مهجوریة كتاب الله في الأمة الإسلامية.

التالی: تدمیر الأصنام أم التسامح؟

السابق: القاعدة الذهبية للأخلاق

العودة إلى الفهرس

 

المكتبة الإسلامية: معرفة الإسلام


[1] . «وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيل»

[2] . «فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ»

[3] . «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ»

[4] . «كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‎﴿٨٦﴾‏ أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‎﴿٨٧﴾‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ‎﴿٨٨﴾‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ‎﴿٨٩﴾‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ‎﴿٩٠﴾‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ‎﴿٩١﴾»‏

[5] . «وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»

[6] . «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا»

[7] . «وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ»

[8] . «مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.»