القاعدة الذهبية للأخلاق

وان کانت قمة القيم الإنسانية تنعكس في الأخلاق الفردیة وفضائلها التي یمکن الحصول عليها من خلال التمسك بالحقائق المقدسة والسامية، ولکن الأخلاق الاجتماعیة هي التي توفّر ضروريات الحياة والفرص المتساوية للتوجه والسیر نحو الفضائل.

الخبرة المكتسبة من آلاف السنين من الحرب والمذابح وتسبب المعاناة التي ارتكبتها أيدي أولئك الذين يزعمون لأنفسهم الفضائل الأرضية أو السماوية، جعلت المفكرین الأخلاقيین الخبراء بدلاً من محاولة تقديم تعريف مشترك لأعلى القيم الفردية، أن یبذلوا جهودهم لتحدید الحد الأدنی للحیاة الجماعیة وخلق بيئة يتمتع الجميع فیها بفرص متساویة لاختيار الأفضل.

القرآن الکریم وان کان یصرَ على القيم السماویة ويعتقد أن تحقيق الفضائل يعتمد على الإيمان والسلوك التوحيدي[1]، إلا أنه عندما يتحدث عن الأخلاق الاجتماعية، فإنه ینظر من وجهة نظر أرضية للغاية، فيؤكد على المصالح الإنسانية المشتركة والحياة السلمية لجميع المعتقدات والتفضيلات.

ومن خلال دراسة عشرات من الآيات القرآنية التي تحتوي على توصيات اجتماعية، نجد أنه لا یوجد في أي آیة منها التذرع إلى شيء غير القسط والعدل، وكل المواضيع التي تمت الإشارة إليها من كتابة الديون[2]، ونسبة الطفل المتبني[3]، إلى رعاية الأيتام[4]، وإصدار الأحكام[5]، وحتى القضايا السياسية الكبرى، كلها تدور حول هذا المحور نفسه، إلى حد اعتبر الله تعالى في الآية 25 من سورة الحديد توفير الظروف اللازمة لإدارة المجتمع من قبل الشعب على أساس العدل هدفاً لبعثة الأنبياء:

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ.

وتتضح لنا أهمية هذه النقطة عندما نجد أنه في جميع الاستخدامات الکثیرة للقسط والعدل وفي التوصيات المکررة من القرآن والأحاديث، لم يتم تقديم تعريف بديل للعدالة عن تعريفها الأصلي التقليدي الذي يستند إلى فهمنا البشري والأرضي للخير والشر كمقياس للسلوك الإنساني الأخلاقي. وعلى هذا الأساس وردت كلمتا “المعروف” و”العرف” في القرآن الكريم أربعين مرة، تأكيداً على ضرورة إقامة علاقات اجتماعية عادلة. كما أن الآية 199 من سورة الأعراف تلزم النبي (صلی الله علیه وآله) بالثقة بالضمير الإنساني المشترك للمجتمع، ومطالبة الناس بالعيش وفقاً للفهم المشترك للخير والشر المعترف به فيما بينهم:

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.

إن سر هذه الثقة بالإنسانية يأتي من النظرة التي ينظر بها القرآن إلى الطبيعة الإلهية للإنسان، ويؤمن بأن نداء ضميرنا الداخلي هو كلام الله وأمره، وأن الدين الحقيقي الحنیف ليس إلا الاستسلام للحقيقة التي نجدها في أنفسنا. وهذه هي ما تتجلى في الآية 30 من سورة الروم:

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.

لا شك أن هذه الآية لا تعني أن كل الإدراكات صحيحة ولا أن كل الرغبات فطرية، لأن التناقض بين كثير من الإدراكات وقبح كثير من الرغبات الشهوانية ظاهر إلى درجة لا يمكن معه لأحد أن يعتبرها إلهية؛ ولكن حقيقة قدرتنا علی التعرف علی خطأ الآراء بسبب تعددها وتناقض مواقفها، واستشعارنا قبح بعض الرغبات والسلوكيات، خير دليل على وجود أساس موثوق للتمييز بين الصواب والخطأ في الضمیر الانساني.

نعم من المؤكد أننا إلى جانب الطبيعة الإلهية والقدرة على التمييز بين الخير والشر، مثقلون بالغرائز والشهوات التي تأسر حتى العقل وقوة التفكير وتعوق قدرتنا على الفهم والتمييز. ولكن من هذه النقطة لا نستطيع أن نصل إلى نتيجة مفادها أن ما يقوله الآخرون خطأ وأن إدراكنا لنص مقدس، أو تجربة نظرية، أو أي أساس آخر فقط هو الحق الذي ينبغي أن يكون معياراً للصواب والخطأ. لأن العوامل نفسها التي دفعت الآخرين إلى التوصل إلى استنتاجات خاطئة والدفاع عنها بشكل حاسم، قد تكون قد تركت نفس التأثير على إدراكنا ونظرتنا، وإن استبعاد أنفسنا ومدرستنا الفكرية من هذا المبدأ العام ليس له أساس سوى تعظیم الذات والغطرسة.

في هذه الحالة، فإن الطريقة الوحيدة للاستفادة من فطرتنا الإلهية وحفظه في مأمن من الآفات المحتملة، هي الخروج من الموقف الذي تؤثّر فیه الشهوة والأنانية و الاستقرار في مکان لا مجال لتلاعب الرغبات النفسانیة فیه حتی نتمکن من معرفة نداء فطرتنا غير الملوثة بالغرائز الجسمانیة. نحن إذا لم نخرج من قيود الافتراضات والثقة المفرطة بالنفس، حتى لو كنا متنعمین بأفضل الكتب المقدسة والتعاليم الالهیة، فما زال من الممكن أن يتأثر فهمنا لتلک المتون بأنانيتنا. ولکن إذا وضعنا أنفسنا مكان الآخرين واستمعنا إلى نداء الضمیر عن طریق شخص آخر، فسوف نقدر أن نفهم بشكل أفضل أن هذا النداء نداء الهي وسنلزم أنفسنا بـ «أن نحب للآخرين ما نحبه لأنفسنا».

التالی: عقوبة ترك الدين

السابق: هموم المعنيين

العودة إلى الفهرس

 

المكتبة الإسلامية: معرفة الإسلام


[1] . الآية 75 من سورة طه تنص على هذا الأمر: «وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ»

[2] . الآية 282 من سورة البقرة تتضمن نصائح حول كتابة الإيصال لمبلغ ومدة التقسیط حتی تؤکّد على ضرورة عدالتها: «وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ»

[3] . في بداية الآية 5 من سورة الأحزاب هکذا يذكر القرآن سبب ضرورة نسبة الأبناء المتبنين الی الآباء: «ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ»

[4] . وفي الآية الثالثة من سورة النساء يعبر القرآن عن خوف عدم العدالة کدلیل لإباحة تعدد الزوجات ويعتبر أیضاً مراعاة العدل شرطًا لإباحة تعدد الزوجات: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا»

[5] . في الآية 58 من سورة النساء نقرأ: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا»