وهناك سؤال آخر يطرح عادة بعد بیان النظرة القرآنية لحرية الاعتقاد وهو: إذا كان التسامح مع الآراء المختلفة أمراً جیداً، فلماذا حطم النبي إبراهيم علیهالسلام أصنام المشركين، ولم يحترم حريتهم ولا عقائدهم كما ورد في الآيتين 57 و 58 من سورة الأنبياء:
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ. فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ.
وللإجابة على هذا السؤال، وخلافاً للتبريرات التقليدية، ينبغي أن نلاحظ أنه عندما نرید أن نبین تعاليم مدرسة، من الضروري فصل المبادئ والأسس والأمور القطعية عن الأمور الفرعية والغموض والاستثناءات والحالات النادرة. على سبيل المثال، لا يمكننا أبداً أن نعتمد علی ما ورد في الآية 74 من سورة الكهف في قصة موسى والخضر علیهما السلام[1]، التي تحکي إعدام شخص قبل ارتكاب أي جريمة ونفعل مثله و باستناد هذه الحکایة نرفض الأدلة الواضحة التي تؤكد علی خطأ الانتقام قبل الجریمة؛ ولهذا نری أنه لم يسكت النبي موسى علیهالسلام عن هذا العمل، رغم أنه وعد بعدم الاعتراض أو السؤال، لأنه لم يكن على استعداد لقبول انتهاك المبادئ الراسخة لمنهجه بسبب مسألة معینة لم يكن عارفاً بحکمتها.
إن أولئك الذين يعرفون القرآن والسنة يعرفون جيدًا أن كرامة الإنسان وحريته من أهم المبادئ الأساسية والنهائية لهذه المدرسة، وكل الأحکام والأوامر الإلهية تكتسب معنى وأهميتها بالاعتماد على هذه المبادئ. کما أن حرمة سب وإهانة القيم المقدسة للآخرين أیضاً من التعاليم المؤكدة في القرآن، كما ورد بوضوح في الآية 108 من سورة الأنعام:
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
إن ضرورة التسامح واحترام المعتقدات المختلفة اذا کانت لا تنتهك حقوق أحد، هي أیضاً مما نفهمها بوضوح من عقولنا ومنطقنا وخبرتنا ویؤكد عليها القرآن الکریم مرات عديدة. ومن أوضح هذه التأکیدات ما جاء في الآية الثامنة من سورة الممتحنة:
لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
إذا انتبهنا إلى هذه النقاط، عندما نواجه موقفًا مثل تدمير الأصنام ولا نعرف خلفياته وجوانبه، نعلم أنه يجب علينا تفسير هذه المواقف بطريقة لا تتعارض مع المبادئ والأسس الثابتة للقرآن. والسبب في ذلك هو أنه في هذا الموقف، هناك احتمالات عديدة للاستثناءات بسبب ظروف مختلفة أو اختلاف الشرایع، أو أن تلک الأصنام کانت مرتبطة بمنظمات تقوم بالظلم والطغيان على الناس أو غیر ذلک من الاحتمالات. وبالتالي، فإن النظر في هذه الجوانب يساعدنا على فهم عدم التناقض بین قصة تدمير الأصنام والدلائل التي تؤکد على التعايش السلمي بين الأديان المختلفة وتحریم سب الأصنام.
ومن هذا المنطلق، حتى لو لم يستطع أحد أن يفسر طبيعة تدمير الأصنام إلا على أنها سلوک هجومي، ويعتقد أن هذا الفعل في جوهره إهانة للمشركين وإثارة الضيق والإساءة، فإنه يكفيه أن يفهم أن هذه المهمة الإلهية الموكلة إلى فرد فريد في سياق استثنائي، لا تتعارض مع المبدأ العام من الإسلام الذي أوصی الله تعالی به الجمیع. وبالتالي، لا يمكن لأحد أن يستخدم هذا كذريعة للإساءة إلى الآخرين وإهانة مقدساتهم، كما حدث من أفعال داعش التي هدمت كل ما اعتبروه شركاً، وحرموا الآخرين من حقوقهم، وقدموا صورة غير أخلاقية للدين.
وهنا ينشأ سؤال أو اعتراض آخر يشغل أذهان أولئك الذين يؤمنون بالتسامح الديني. فهم مع إقرارهم بعدم صحة إهانة مقدسات الآخرين، لا يحبون استخدام كلمة “الاحترام” في التعامل مع المعتقدات الخرافية والخاطئة للآخرين، ويعتقدون أن احترام العقيدة يعني تكريمها ورفعتها واعتبارها غير قابلة للنقد. ولكن هذا الانطباع غير صحيح، ولا تحمل هذه النظرة مثل هذه المعاني. فعندما يستخدم شخص کلمة «الاحترام» فیما یتعلق بالمعتقدات التي يراها باطلة، فهذا لا يعني بالتأكيد أنه قد قبل تلك المعتقدات أو وافق عليها، بل يعني أنه اعتبر الاحترام کحاجز وحمایة أمام الإهانات والسلوكيات الهدامة التي تحدث عادة مع أشخاص محرومين من حقوقهم الطبيعية.
إن الإنسان عندما لا يحترم معتقداً ما فإنه يعطي نفسه الحق في إهانة هذا المعتقد والسخرية منه بدلاً من انتقاده و حتی التعبیر عن البرائة منه. ومن يقول إنه يحترم فرداً ما دون أن يحترم معتقداته فإنه لا يلعب إلا بالكلمات؛ وذلك لأن شخصية الإنسان وهويته لا تتحدد بجسده المادي، بل تقوم علی معتقداته وأفکاره التي تتشکل فیه علی أساس ظروفه ومنظوره.
إن القرآن الكريم هو كلام الله الذي یعرف الإنسان جيداً ويدرك أن عقلية الإنسان تندرج ضمن إطار الظروف والقيود الأخرى المحيطة به ومن الطبيعي أن يظن كل إنسان أن معتقداته هي الحقيقة، ومعتقدات الآخرين خرافية وكاذبة. وإذا سمحنا لأنفسنا بإهانة أولئك الذين يفكرون بشكل مختلف عنا فلا يبقی مجتمع في مأمن من الحروب والصراعات التي لا نهاية لها.
إن الاستثناء الوحيد لمبدأ احترام معتقدات الآخرين هو اسلوب تعاملنا مع المعتقدات التي تحرم الآخرين من حقوقهم الطبيعية وتعرضهم للخطر. لأن مواجهة الظلم والاستبداد والدفاع عن الحقوق التي تحظى بقبول واسع النطاق أمر محبب ومعترف به من قبل جميع الأفراد، وكما رأینا في الآیة الثامنة من سورة الممتحنة فإن الاستثناء الوحيد الذي يذكره القرآن في العيش السلمي مع أشخاص ذوي معتقدات وأفكار مختلفة هو الظلم وانتهاك سلامة الآخرين وحقوقهم.
بعض الناس يعتقدون أن احترام معتقدات الآخرين يعني إضفاء الشرعية عليها ولذلک یسردون صفحة كاملة من المحتويات بذكر معتقدات أمثال داعش وغيرهم من المجرمين والمنحرفين لإثبات أنه ليس كل المعتقدات تستحق الاحترام. ولكن هذا نابع من عدم انتباههم إلى حقيقة أن بيئتنا تؤثر على وجهات نظرنا. كما أنهم لا ينتبهون إلى أنهم يعتبرون داعش أمثلة على السوء والانحراف لأن أهم سماتهم عدم احترام معتقدات الآخرين.
ولم يدرك هؤلاء أننا كأشخاص عاديين لسنا المالک الحصري للحقيقة ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه اكتسب اعتقاداً صحيحاً من المستحيل أن نجد أي اعتقاد أسمى أو أصدق من ذلك. إن أعظم المفكرين والعلماء متضاربون في آرائهم، وقد أدركوا أخطائهم مرات عديدة، ولذلک فإنهم دون الوقوع في فخ النسبية أو التقليل من قيمة معتقداتهم، ينظرون إلى آرائهم الأخيرة بعين النقد.
في هذه الحالة، الحل الوحيد الذي یبقی أمامنا لتصحيح المعتقدات هو من خلال الحوار والمحادثات العقلانية والاعتماد على الضمير الإنساني المشترك. نحن ملزمون ببذل قصارى جهدنا لزيادة الوعي وفهم أخطائنا من أجل تقليص المسافة بيننا وبين الحقيقة.
على الرغم من أنه ليس كل الأفراد لديهم نفس القدرة على الوصول إلى مصادر الحقيقة وظروفهم وكذلك وجهات نظرهم تجاه الواقع مختلفة، إلا أن الجميع يفهمون أهمية الضمير الإنساني وقبح تجاهل ما فهموه؛ ولذلک فإن المعيار الوحيد الذي لدينا لتحديد مستوى القيمة والاحترام الممنوح للآخرين، هو القیم الأخلاقية، ولا ينبغي لنا أن ننظم احترام الآخرين على أساس ما إذا كانت معتقداتهم تتوافق مع الحقيقة. فالمشكلة الرئيسية لأمثال داعش وغيرهم من المجرمين ليست معتقداتهم الخاطئة، بل ان ما يجعلهم أكثر كراهية هي أخلاقيتهم وغطرستهم وتجاهلهم للضمير الإنساني والحوار.
الحالة الوحيدة التي يُسمح لنا فيها بعدم احترام معتقدات شخص ما هي إذا كنا على دراية بجميع حدوده وظروفه، وهذا لا يكون إلا إذا تأكدنا من تقصيره أو عناده في الاستجابة لوعيه من الحقيقة المعروضة عليه؛ وهذا الحكم صعب للغاية، إلا في حق قليل من الناس، لا يقدر على القيام به إلا الله الذي هو “علام الغيوب” أو أولیائه.
والحمد لله رب العالمین
السابق: عقوبة ترك الدين
المكتبة الإسلامية: معرفة الإسلام
[1] . «فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا»