لا شك ولا جدال في أن القرآن الكريم يعتبر تحرير الإنسان من القيود والسلاسل المختلفة من أهداف الدين الحنیف؛ ولكن بعض الناس یجعلون هذه الحرية منحصرة في الأبعاد الروحية ويتجاهلون موقف القرآن الواضح من الحرية السياسية والاجتماعية والعقائدية. هم يقولون إننا إذا أطلقنا سراح الإنسان الجشع والمفسد فلن ينتج عن ذلك إلا الفساد والدمار. وبالتالي فإنهم یعتبرون تزاید الحرية الاجتماعية سبباً لتناقص الحريات الروحية.
ولکن القرآن الكريم ینظر إلى الإنسان بشكل مختلف، ورغم التحذيرات العديدة من مخاطر الشهوة والأنانية وملامة الطبيعة المتسرعة للإنسان، فإنه يمدح كرامة بنيآدم وتفوقهم على كثير من المخلوقات[1]، واعتزاز الانسان بحمل أمانة الله[2]، واعتماده على مكانته كخليفة لله[3]، وسجود الملائكة له[4] و یعتبر كل هذه التکریمات نتیجة لحريته واختیاره، لأنه كما ورد في الآية 165 من سورة الأنعام، فإن البشر قد اعطیت هذه المکانة الرفيعة حتی یبتلی ویستحق به الثواب والعقاب:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ.
وهذه هي نفس النقطة التي تم تقديمها كفلسفة للحياة والموت في الآية الثانية من سورة الملك:
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ.
ومع ذلك، هناك دائماً بعض الأشخاص قصیري النظر الذین یعتقدون أنه نظراً لأهمیة وأولویة الهداية وإرشاد الناس إلى الإيمان فمن الممكن التسامح مع مرارة وقبح الإكراه الديني ویبرّرون هذه الطریقة السیئة، کبعض المسلمین الذین کانوا في الأيام الأولى للإسلام من الذين رافقوا النبي (صلی الله علیه وآله) وکانوا یظنون أنهم أكثر تعاطفًا وأكثر اهتمامًا بمصالح الدين منه.
کما ذکر في حديث رواه الإمام الرضا (علیهالسلام) بسند ذهبي عن أميرالمؤمنين الإمام علي (علیهالسلام) أن بعض هؤلاء الوهمیین کانوا یصرّون على رسول الله (صلی الله علیه وآله) أن یکره الناس علی الایمان ویحرمهم من حريتهم لزيادة قوة وسلطان الإسلام. ولكن رفض النبي (صلی الله علیه وآله) هذه الفکرة وقال: “مَا كُنْتُ لِأَلْقَى اَللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ بِبِدْعَةٍ لَمْ يُحْدِثْ إِلَيَّ فِيهَا شَيْئاً وَ مٰا أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ” وهنا نزلت الآية 99 من سورة يونس:
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.
وفي تکملة هذا الحديث المنير، تم شرح معنى الآية على أنّ الله تعالی يقول: لو شئت لأجبرت الناس على قبول الدين «عَلَى سَبِيلِ اَلْإِلْجَاءِ وَ اَلاِضْطِرَارِ فِي اَلدُّنْيَا كَمَا يُؤْمِنُونَ عِنْدَ اَلْمُعَايَنَةِ وَ رُؤْيَةِ اَلْبَأْسِ فِي اَلْآخِرَةِ وَ لَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِهِمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا مِنِّي ثَوَاباً وَ لاَ مَدْحاً لَكِنِّي أُرِيدُ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا مُخْتَارِينَ غَيْرَ مُضْطَرِّينَ لِيَسْتَحِقُّوا مِنِّيَ اَلزُّلْفَى وَ اَلْكَرَامَةَ وَ دَوَامَ اَلْخُلُودِ فِي جَنَّةِ اَلْخُلْدِ.»[5]
ولهذا السبب نری أن القرآن الكريم يقول بكل صراحة ودون أي تنازل أو خوف عدة مرات ومن جملتها في الآية 29 من سورة الكهف:
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.
إن خالق الكون يعلم جيداً عواقب فتح طريق الشر والفساد أمام الراغبين في الخطيئة[6]؛ ومع ذلك یقول: ذرهم يغرقون في ألعابهم[7] وطغیانهم[8] وشهواتهم وآمالهم[9] ولکن یجب أن تستمر وتبقی الحرية وإرادة الانسان. ولهذا السبب یحکی الله تعالی في الآية 28 من سورة هود کلام النبي نوح (علیهالسلام) الذي کان یقول لقومه عندما لا ترون هذه البینات الواضحة ولا تعجبكم هذه الرحمة الإلهية فلماذا نكرهكم عليها؟
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.
نعم اذا کانت المساحة مفتوحة، سيحصل الأعداء أيضاً الفرصة للإعلان و نشر أفکارهم؛ لکن الخالق الذي أقام هذه الابتلائات، هو بنفسه قرر أن یطلق أیدي الشياطين في عداوتهم للأنبیاء وسمح لهم أن یقولوا أکاذیبهم[10]حتى يختار الناس بأنفسهم.
ويؤكد القرآن على حرية التعبير لمعارضيه، لأنه يعتبر تلقي الهداية الإلهية في ضوء تجنب عبادة الطواغیت التي أعطاها الله أيضًا الفرصة والمهلة؛ ويعتبر القرآن أن اكتمال البشرية يكمن في طريق الاستماع إلى مجموعة متنوعة من الآراء واختيار أفضلها. وعليه نقرأ في الآيتين 17 و18 من سورة الزمر:
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ.
رغم أنه لا يوجد إنسان عاقل يحب الحرية اللامحدودة، لا یوجد في هذا الکتاب کلام حول حظر ورقابة المنتجات ووسائل الإعلام الخاصة بالمدارس الفكرية الأخرى ووصفها بعنوان وهمي کالكتب الضلال؛ بل بدلاً من ذلك، يُنصح المؤمنون بمعاملة الجميع، حتى أعداء الدين، بالعدل والإنصاف وبناءً على القاعدة الذهبية للأخلاق التي تقول ” عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك “، یعلّمنا أنه إذا ما وضعنا أي قيود على حرية خصومنا، فسوف تكون هذه القيود هي نفسها التي لن نمانع في تطبيقها علينا.
اذا انتبهنا لهذه النقطة نرى أنه کما تقول الآية 194 من سورة البقرة لا یجوز حرمان أحد من الحریة الا أولئك الذين ينتهكون حقوق الآخرين وهذا هو ما يتوافق مع التقوى:
فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.
التالی: القاعدة الذهبية للأخلاق
السابق: لا إكراه في الدين
المكتبة الإسلامية: معرفة الإسلام
[1] . في الآية 70 من سورة الإسراء نقرأ: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»
[2] . ویقول في الآية 72 من سورة الأحزاب: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا»
[3] . وهکذا تبدأ قصة خلق الإنسان في الآية 30 من سورة البقرة: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»
[4] . بالإضافة إلى ذكر سجود الملائكة لآدم في بداية سورة البقرة وفي آيات أخرى، في الآية 11 من سورة الأعراف ورد ذكر سجود الملائكة لآدم بعد خلق وظهور جميع البشر: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ»
[5] . الشيخ الصدّوق، عيون أخبار الرضا (ع)، طهران؛ جهان: ج1، ص134.
[6] . في سورة القيامة الآية 5 نقرأ: «بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ»
[7] . وفي الآية 91 من سورة الأنعام نقرأ: «قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ»
[8] . في الآية 110 من سورة الأنعام ورد: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ»
[9] . وفي الآية الثالثة من سورة الحجر نقرأ: «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ»
[10] . وقد ورد هذا القول بشكل واضح في الآية 112 من سورة الأنعام: «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ»