لقد تناول القرآن الكريم مرات عديدة موضوع التدين الصالح وفي هذا السیاق قد أبدی أکثر قدر من الاهتمام بالحرية والاختیار في تحقيق الدين الحنیف. وقد بلغ هذا الاهتمام الی حد قد رفض القرآن الكريم رفضاً قاطعاً لأي نوع من أنواع الإكراه في الشؤون الدينية، حيث أعلن بوضوح في الآية 256 من سورة البقرة:
لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ.
إن موضع الإيمان هو القلب[1]، والقلب لا يقبل أي فرض واجبار. ومن ثم كان جواب الأنبياء لأولئك الذين لم يقبلوا دعوتهم إلى الله وأیضاً للجبارین الذين کانوا یفرضون علیهم معتقداتهم: أن الدين لا يتوافق مع الإكراه. ونقرأ مثالاً لجواب الفریق الأولى في الآية 28 من سورة هود، إشارة إلى قول النبي نوح (علیهالسلام) موجهاً لشرفاء قومه الذين لم يقبلوا دعوته:
أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.
والمثال لجواب الفریق الثاني يمكن أن نراه في قول النبي شعيب (علیهالسلام) لأشراف قومه عند ما واجه منهم الاکراه الدیني الذي تحکیه الآية 88 من سورة الأعراف:
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ.
ومع ذلك، يصعب على كثير من المؤمنين أن يقبلوا أن الدين اختياري. ولعلهم من باب حسن النية والنصح يظنون أن إكراه الآخرين هو في مصلحتهم؛ لأنهم سيسلكون طريق النجاة. إلا أن القرآن الكريم یعارض هذا الوهم ويخاطب هؤلاء المؤمنين في الآية 31 من سورة الرعد أنه لو كانت في الإكراه الديني منفعة لفعله الله بسهولة:
أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا؟
ومع أن الرسول الكريم (صلی الله علیه وآله) لم يفرض على أحد قط أن يكون متدينًا، إلا أنه كان حريصًا جدًا على ترغیب الناس على الإيمان[2]، ولذلک یحذّره القرآن الكريم مرات عديدة بأنه ليس وکیلاً على الناس أو مسئولاً عنهم. يمكن العثور على أحد هذه التحذیرات في الآيتين 104 و 107 من سورة الأنعام، حيث يقول الله أولاً على لسان نبيه:
قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ.
ثم في الآية التالية تكرر نفس النقطة ويخاطب النبي بقوله:
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ.
سنّة الله وارادته جعلت استرشاد وهدایة الأشخاص باختيارهم، لا بفرض أو اکراه أو أغراض الآخرين؛ ولذلك الآية 56 من سورة القصص تذکّر النبي الكريم (صلی الله علیه وآله) بأن الهداية تتحقق فقط علی وفق هذه القاعدة التي وضعها الله:
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
وفي الآيتين 21 و 22 من سورة الغاشية، ينبه الله نبيه إلى أن واجبه هو التحذير ولیس السيطرة على الناس:
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ.
وهذه النقطة قد ذکرت في الآية 99 من سورة المائدة بهذا البيان:
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ.
لذلك، عندما “تبين الرشد من الغي”[3] يجب ترك الناس أحرارًا حتى يقرّر من شاء أن يقبل هذه الحقيقة الواضحة، ومن لم يشأ أن يقبلها، فيمكنه أن یدوس علی هذه الحقيقة ويصبح كافراً بإرادته واختياره. ومن هنا، جاء في الآية 29 من سورة الكهف:
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.
ومن الواضح أنّ هذا البيان ليس إذنًا بمعارضة أمر الله؛ بل يعني أنّ الذي خضع له كل الوجود[4] قد أراد أن يتحدّد مصير الإنسان، خيراً كان أم شراً، باختياره وحده، وأن لا يكون للسلوك الديني القسري ولا للسلوك المناهض للدين بالإكراه[5] أي تأثير على هذا المصير.
يقول البعض أن الدين في أصله اختياري، ولكن بعد القبول، يصبح الدين مجموعة من الفرضيات الإلزامية التي يجب الالتزام بها. كما يرى فريق آخر أن من واجبات أو سلطات الحكم الإسلامي تنفيذ الأحكام الدينية ولو بالقوة، ولکن علیهم أن ینتبهوا الی أنه لا فرق بين أصول الدين وجوانبه الثانوية من حيث الالتزامات الأخلاقية أو العواقب في الآخرة. والقرآن یعتبر تطبيق الأحكام الدينية في المجتمع ذا قیمة ويعتبرها علامة على الإيمان، فقط اذا کان الناس أنفسهم قد اختاروا طوعاً الالتزام بها وخضعوا لها بتمام الاخلاص وقلب سليم. ولذلك نرى في الآية 65 من سورة النساء التي تؤكد على ضرورة تنفيذ حكم النبي بلا أدنى شك، التأکید علی ضرورة القبول الطوعي والاستسلام القلبي لحکمه كعلامة على الإيمان الحقيقي، ولیست في هذه الآیة کلام حول فرض أحكامه على الناس:
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
المغالطة أو سوء الفهم الكبير الذي يحدث هنا هو أن أنصار الإكراه الديني يتخذون من “التکلیف والالتزام الشخصي” لمن أدرك حقيقة الدين وأحكامه ذريعةً لتبرير “التدخل وإلزام الآخرين”. وهذا في حين أنه لا يوجد دلیل علی صحة هذا التلازم، وعلى الرغم من أنه يجب على كل شخص أن يعتبر أمر الله إلزامياً وأن يؤديه كواجب قطعي، إلا أنه لا يحق لأحد إجبار الآخرين على أداء الأمور الدينية.
التالی: هموم المعنيين
المكتبة الإسلامية: معرفة الإسلام
[1] . كما جاء في الآية 14 من سورة الحجر: «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ»
[2] . ويرد مثال على هذه الرغبة القوية في الآية 6 من سورة الكهف على النحو التالي: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا»
[3] . وفي الآية 256 من سورة البقرة مباشرة بعد إعلان «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» يقول: «قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ». إن التعبير عن هذه النقطة في هذه الآية خلافاً لرأي من اتخذها ذريعة لإبطال حكم القرآن في الحرية الدينية، تأكيد على عدم جدوى الإكراه الديني. أي أنه عندما يتم شرح طريق الخير والشر بشكل جيد، ولكن لا يزال بعض الناس يختارون الطريق الخاطئ، فإن إجبارهم على العودة عن هذا الطريق لا فائدة منه، وكل شخص يختار طريقه ومصيره.
[4] . وجاء في الآية 83 من سورة آل عمران أن الوجود كله خاضع لمشيئة الله ولا يحدث شيء بدون إرادته: «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ»
[5] . وقد ورد عدم فعالية الأعمال الاجباریة المناهضة للدين وعدم ضررها في الآية 106 من سورة النحل على النحو التالي: «مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ»